منذ انطلاق الثورة على نظام البعث قبل عامين ونيف تقريباً، كان كل من حركة المجتمع الديموقراطي ومعها مجلس الشعب في غرب كردستان سباقين في اعتماد مقاربات استراتيجية لتكريس الحق الكردي في غرب كردستان (كردستان سوريا) عبر شروعهما منذ بدء الثورة في انتهاج خطّ ثالث خاص بالكرد، تجسّد في التحذير مسبقاً من فخاخ العسكرة والأسلمة والتطييف. ذاك الثلاثي الذي أصاب الثورة في مقتل بل وحوّلها إلى حرب طائفية لا أحد يستطيع انكارها. فالأمم المتحدة والقوى الدولية الكبرى جميعها تقرّ بكونها حرباً أهلية، فضلاً عن الاعلام الدولي.وبفضل السياسات العقلانية والثورية المبدئية لحركة المجتمع الديموقراطي بالدرجة الأولى، تمكّن الكرد من النأي بأنفسهم وبمناطقهم من الدخول في معمعة النار التي تحرق سوريا في شقها العربي، وحولتها إلى بقايا وطن. من هنا تثبت الآن أكثر فأكثر صوابية مقاربات الطرف الكردي، وخاصة مواقف مجلس شعب غرب كردستان، التي طبعت فيما بعد موقف الهيئة الكردية العليا، لكونها نابعة من عمق المزاج والمصلحة الشعبيين الكرديين.
فالحركة التي شرعت في الإعداد لتعبئة الفراغ في غرب كردستان منذ بدء الثورة، وتضعضع سلطة النظام عبر رؤية بعيدة النظر، عملت بفاعلية دون انفعال عبر الشروع في التأسيس للمجالس والإدارات المحلية والشعبية المنتخبة، فضلاً عن مختلف المؤسسات المدنية والخدمية المتعددة تعدّد المجتمع وقطاعاته، بغية تنظيمها وصولاً إلى افتتاح المدارس الكردية، وفرض تدريس اللغة الكردية في المدارس. فضلاً عن النقطة الأهم، وهي توفير الغطاء السياسي لوحدات حماية الشعب وقوات الأسايش (الأمن)، التي هي الآن قوى وطنية عسكرية شرعية تابعة للهيئة الكردية العليا بوصفها الممثل الشرعي والوحيد لكرد سوريا، وسلطة الأمر الواقع في المناطق الكردية، لكونها تضم تحالفاً بين المجلسين الكرديين الرئيسين في سوريا.
ومع استمرار تعقّد الوضع السوري، ومآلاته الكارثية، وخاصةً مع احتدام الصراع الطائفي وتحوّله إلى حرب عابرة حتى لحدود سوريا على وقع صاعق التماس السني _ الشيعي، بادرت حركة المجتمع الديموقراطي إلى طرح مشروعها الجديد، الذي كشف النقاب عنه قبل أيام. هو مشروع خاص بتأسيس إدارة مدنية موقتة مشتركة بين مختلف القوى والأطر السياسية ومجمل مكونات غرب كردستان من قومية وطائفية ودينية، تقوم أساساً على التمهيد للانتخابات البرلمانية، ليتمخض عنها برلمان وحكومة واعداد دستور مؤقت يقونن العملية، ما يمثل انتقالاً من حالة الديفاكتو في غرب كردستان إلى حالة مؤسساتية عبر مأسسة التجربة الديموقراطية الجنينية، وشرعنتها، من خلال إكسائها الشرعية القانونية والشعبية، ما يحصن الموقف الكردي أكثر فأكثر، وينعكس ايجاباً على الوزن والدور الكرديين في معادلة التغيير والتحول السوريين، التي هي بوصلة لمعادلة التغيير الاقليمية ككل.
ولعل ما يكشف أهمية هذه المبادرة ــ المشروع وضرورتها لاحقاق الحق الكردي في سوريا المستقبل، وضمان حلّ عادل وديموقراطي للقضية الكردية فيها، ردود الفعل العنصرية المتشنجة من قبل مختلف الأوساط المعادية للقضية الكردية داخلياً وخارجياً، ولا سيّما من قوى المعارضة العربية السورية الممثلة في «الائتلاف» على وجه الخصوص، ضد مبادرة ما زالت قيد البلورة والتدشين، وما تبعها من هجمات للمجاميع الارهابية التكفيرية التابعة لجبهة النصرة ودولة العراق والشام الاسلامية، فضلاً عن بعض كتائب «الجيش الحر» على المناطق الكردية من كري سبي (تل أبيض) إلى سري كانيه (رأس العين)، وصولاً إلى جل آغا وديريك، أي من أقصى غرب كردستان إلى أقصاها. فها هنا تكمن خلفيات هذا الاستشراس العروبي والاسلاموي القاعدي في استهداف المنطقة الكردية، في محاولة لوأد التبلور الكياني في غرب كردستان وفق نموذج الإدارة الذاتية الديموقراطية في سياق دولة لامركزية اتحادية. وليس سراً أن هذا النموذج الديموقراطي العصري يتنافى جملة وتفصيلاً مع توجهات المعارضة العروبية الاسلاموية وأجنداتها، الهادفة إلى إعادة انتاج الاستبداد إن عبر إقامة إمارات ودول اسلامية، أو إعادة انتاج دولة البعث، لكن هذه المرة بصبغة صدامية سنية بدلاً من صبغتها الأسدية العلوية الآفلة.
* كاتب كردي